“يمكننا أن نفترض أن أعظم حدث عرفه العقل الذي سيُدعى يوماً لأن يبلغ بنموذج “العقل الحر” إلى نقطة الكمال من حيث النضج والغضاضة كان ذلك التحرر الكبير الذي لم يكن قبله سوى عقل مستعبد، غقل مقيد في ركنه وإلى عموده إلى الأبد على ما يبدو. أية السلاسل هي أقوى؟ أية الروابط يكاد يكون فصمها مستحيلاً؟ إنها، لدى أفراد النخبة والطبقة الرفيعة، الواجبات: ذلك الاحترام الذي يختص به الشباب، ذلك المخزون من الرقة الوجلة تجاه كل القيم القديمة والمبجلة، ذلك الامتنان للتربة التي غذتهم، لليد التي أرشدتهم، للمعبد الذي تعلموا فيه العبادة”… نيتشه
هذه السلسلة من المقالات تتحدث عن المثلية الجنسية في سوريا التي يمكن اتخاذها كمثالٍ على المثلية الجنسية في الدول العربية، لأن سوريا كانت دائماً دولة جامعةً للتفاصيل الدقيقة والصغيرة التي نجدها في مجتمعات عربية مختلفة، فالمجتمع السوري هو مجتمع متعدد الأطياف، نجد داخل كل طيفٍ منه عاداتٍ وتفاصيل تماثل عاداتٍ وتفاصيل لمجتمعٍ عربي آخر.
المشكلة الأولى: الدين
من الدين تبدأ كل الحكايات، ففي البدء كانت الكلمة، وكلمة الله مسموعة هنا أكثر من أي مكان آخر، ولذلك كان الدين أمراً هاماً وأساسياً في حياة العرب عامة، والسوريون لا يختلفون عن بقية العرب من تلك الناحية، والنظرة الدينية العامة تجاه المثلية هي نظرة تحريم وتجريم، فرجال الدين على اختلافهم يجمعون أن المثلية الجنسية هي أمر مخالف للطبيعة التي خلق الله البشر عليها.
رغم الاختلافات بين أطياف المجتمع السوري ونظرة بعضها للدين، إلا أن للدين تأثيراً كبيراً على التنشئة، فمعظم السوريين يكبرون وهم يعلمون أن دينهم وطائفتهم يفرضان عليهم تصرفات وعادات معينة لا بد أن يقتدوا بها ولا يخالفوها، لذلك يكبر الفرد السوري وهو على معرفة جيدة بالكثير من قوانين دينه وطائفته، ورغم وجود الكثير من الملحدين والعلمانيين والمنتمين لتياراتٍ سياسية وفكرية لا دينية كالقوميين والشيوعيين وغيرهم، إلا أننا نجد كثيراَ من هؤلاء وأبنائهم على درايةٍ تامةٍ بانتماءاتهم الدينية، ونجد بعضهم، رغم سخريتهم الدائمة من المتشددين والمتمسكين بالدين، يلجؤون إلى سلاح “الحرام” لقمع أية فكرة تخالف أفكارهم، إما لأنهم لا يزالون في اللاوعي يؤمنون بحرمانيتها، أو لأنهم يعرفون مدى تأثير تلك الكلمة على من يريدون قمعه.
لعل السبب الرئيس في ذلك يعود إلى أن الذاكرة الجمعية العربية هي ذاكرة دينية في المقام الأول، فموسى ويسوع ومحمد انطلقوا بدياناتهم من هنا، بالإضافة إلى أن أحداث القصص التوراتية والإنجيلية والقرآنية تدور في هذه المنطقة، لذلك يسهل على أيٍّ كان تحريك مشاعر العرب، والتحكم بهم أحياناً، عند العزف على أوتار دينية فكانت غالبية الحروب والمذابح التي مرت على المنطقة ذات طابع ديني، ولذلك أيضاً يصبح من السهل استخدام الدين وسلاح “الحرام” في محاولة قمع أي أمر كان، فهما من أسهل الأسلحة التي يستخدمها أحد الوالدين عند محاولة دفع أبنائه إلى اجتناب سلوك ما، ولعل أكبر مثال على مدى تأثير هذه الذاكرة الجمعية أن أول ما يرد إلى ذهن أي عربي عند ذكر المثلية الجنسية هو قصة قوم لوط حتى أصبح اسم ذلك النبي الجذر المستخدم للكثير من الكلمات التي تصف المثليين عند سكان المنطقة.
بعد التنشئة التي ترتكز بشكل أو بآخر على التعريف بالدين، ينتقل التأثر بالدين عبر العائلة إلى التأثر به عبر المجتمع الذي مهما ابتعد عن الدين إلحاداً أو علمانية، يظل متصلاً بجذوره الدينية اعتباراً منه أن في ذلك تمسكاً باالأصالة، لذلك يظل لرجال الدين نفوذ كبير على الناس وعلى الحكومات، وعلى الرغم من أن سوريا في ظل حكم الأسد كانت تتدعي العلمانية، إلا أن دستور الدولة يقضي بالاحتكام إلى القرآن، كما أننا نرى فيها مناصب تتعلق بالإفتاء والأوقاف الدينية، وهذا يدل على أن فصل الدين عن الدولة بشكل تام وقطعي هو أمرٌ شبه مستحيل في أية دولة من دول المنطقة، كما يدل على استحالة إقصاء الدين كأحد عوامل خوف وعدم استقرار المثليين العرب، والدين هنا لا يقتصر على الدين الإسلامي رغم كونه الأكثر تشدداً في أحكامه ضد المثلية.
عند المطالبة بحقوق المثلية، لا يجب بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف من الظروف أن نتجه إلى محاولة نقض الدين والاستهزاء به أو إبعاد الناس عنه، تلك ستكون محاولة فاشلة، فالأديان استمرت آلاف السنين ولم تستطع أية محاولات أن تقمعها أو تلغيها، فالبشر أياً كانت جغرافية المكان الذي ينتمون إليه وأياً كان تاريخه، يحتاجون إلى عقيدة ومنهج يؤمنون به ويحتكمون إليه، سواءً كانت تلك العقيدة سماوية أو وضعية…
سامي حموي
SyrianGayGuy@gmail.com
اترك تعليقًا