لا يملك الكثير من المثليين، في المجتمع المثلي السوري، الثقة بالارتباط المثلي. العديد منهم يصفه بأنه غير طبيعي وهذا منفصل عن اعتقادهم بطبيعية المثلية بحد ذاتها. فقد لا يرى المثلي بانجذابه للجنس المماثل أمرًا مضادًا للطبيعة، وقد لا يرى أيضًا في ممارسة العلاقات الجنسية المثلية أية شذوذ. ولكن، وعندما يتعلق الأمر بالعاطفة فإن الكثيرين منهم يصف الموضوع بالسخيف بأقله، والمرفوض تمامًا بأكثره.
لقد استطاع المجتمع السوري المحافظ أن يزرع فكرة أن المثلية الجنسية شذوذ. فالإعلام والصحافة والثقافة العامة والتقاليد والدين والطب الذي يدرّس في الجامعات كلها تصف أي شبهةٍ جنسيةٍ غير موجهة للجنس الآخر على أنها شذوذ، بل وتعاقبه بكل أشكال العقوبات المعنوية والمادية والتي بقسوتها ترغم المثلي “المتهم” على تغيير طبيعته، أو رفضها، أو العيش في النكران، وينجو منها طويل العمر. ولكن وللأسف فإن هذه الفكرة قد تجاوزت الغيريين، الذين يجهلون حقيقة المجتمع المثلي وطبيعة هذه الحالة المعقدة والفريدة، تجاوزتهم إلى المثليين أنفسهم الذين صوروا حياتهم بصورة كانت تخالف الحقيقة، ولكن ولكثرة الإصرار عليها أصبحت هي الواقع.
كثيرًا ما نسمع من أقراننا المثليين عبارات تصف المثلية بأنها عمل غير طبيعي، أو معاب، أو ببساطة “شذوذ”. ويظهر التدرج مع تدرج شكل العلاقة المثلية. فالتفكير وتخيل الجنس المماثل مقبولٌ حتى عند بعض الغيريين، على ألا يتجاوز حدود العقل والخيال. وتأتي المرحلة الثانية في محاولة الاقتراب من الجنس الآخر حتى تصل إلى الممارسة الجنسية المثلية والتي هي مقبولة عند معظم المثليين والقليل من الغيريين المنفتحين. قد يرفض بعض المثليين فكرة الممارسة الجنسية المثلية، ولكنهم يمارسونها على أية حال، فقد يرون فيها مرضًا قد أصابهم ولا مفر منه، أو حالةً مؤقتةً سيتجاوزونها. وبعد كل هذا تأتي المرحلة الأخيرة المتمثلة في العاطفة بين رجلين أو امرأتين، والارتباط الدائم، والاتحاد بشخص من نفس الجنس بهدف تكوين أسرة مكونة على الأقل من الشريكين.
فكرة الارتباط العاطفي المثلي هي ضالة الكثير من المثليين. يبحثون عمّن يحبهم ويحبونه، ويحلمون بفتى أو فتاة الأحلام الذي سيأتي على حصان أبيض، فيخطفهم من الظلم الذي لحق بهم، ويذهب بهم إلى بلد الأحلام، حيث يستطيعون أن يعيشوا حياتهم بعيدًا عن حياتهم. ولكن، وعند بداية كل علاقة عاطفية تظهر الجروح السابقة، أو الخبرات المتراكمة، أو وببساطة “عظات” الرفاق. لقد درب الكثير من المثليين أصدقائهم على عدم الثقة بالآخر، وأن الجميع سيغدر بهم، وأن الارتباط المثلي هو ضرب من الخيال، إما لمخالفته الطبيعة، أو لأن “كل” المثليين، وببساطة، غير مؤهلين للارتباط العاطفي. فبعد سنين من دس فكرة الشذوذ في أذهاننا، وبعد معاناة قد طالت أو قصرت، يتوصل أحدنا لما هو عليه من الاستقرار النفسي. بعضنا تقبل الفكرة بشكل كامل، وبعضنا يتعايش معها، ولكن وعند أول مطب عاطفي، وعند فشل أول علاقة ارتباط يلوم الأمر برمته على المثلية، ويرمي بثقل البحث عن الأسباب في البحر، ويستسهل أن يجدها فيقوم بوضع اللوم على “شذوذ” الفكرة! الممارسة الجنسية مقبولةٌ لدينا، ولكن العاطفة مستحيلة التطبيق، والدليل فشل العلاقة. سلسلة غير منطقية، ولكنها شائعة، ويزيد من شيوعها تقبلنا لها.
من جملة ما تغير من مفاهيم عاطفية تغير مفهوم الارتباط لدى المثليين. فالتعلق بآخر لا يأخذ أكثر من ساعاتٍ، وتركه لا يأخذ أكثر من دقائق. حتى العلاقة بحد ذاتها لا تستمر لأكثر من أيامٍ أو أسابيعٍ. تبدأ العلاقة بسبب لفتة لطيفة من أحدهما، وتنتهي عند أول شاكلة تواجههما. ويكون رد الأصدقاء المحيطين بالطرفين دائمًا هو “يللي مضيع حبيب، يمكن سنة وينساه”، ويشجعون صديقهم على تجاوز هذا الشخص بغض النظر عن طبيعة علاقتهما أو شكلها أو كيف بدأت ولماذا انتهت في تجاهل تام للمشكلة، وتركيز مفرط على النتيجة.
لقد رأيت في كثير من المثليين رغبةً مازوخيةً في “الدعس على القلب” والإصرار على نسيان الحبيب ورمي كل الماضي في القمامة. ونصرخ أننا كنا أغبياء عندما أحببنا فلان، وأن تلك الفترة ممحيةٌ من حياتنا. نرفض أن نرى الواقع كما هو، فنكابر ونقول بأننا لا نريده أو لا نريدها. فلا نخرج من العلاقة بعبرة إلا أن الطرف الآخر دائما خوّان، وننسف أي فرصة مستقبلية للتعارف خوفًا من فشلٍ آخر، أو خوفًا من مواجهة الواقع.
وفي بعض الحلات المعاكسة، نتخيل ونظن أن العلاقة موجودة أصلاً، وننسج في خيالنا ما هو مخالفٌ للواقع. فالبعض مثلاً يصر على أن علاقته كانت حقيقية، ويبنى قصورًا من خيال، وينفصم عن الواقع فيجعل من الصحبة حبًا، ومن المحبة عشقًا، ومن الصداقة ارتباطًا لا ينتهي، فتتداخل المفاهيم وتتخلخل أسس العلاقة. بل وأحيانًا يتجاوز الأمر صداقة الطرفين إلى صداقات أصدقائهما، فتتحول رغبتنا العارمة بالدخول في علاقة حب نحسًا على كل الأطراف المعنية.
قد يدخل أحدنا العالم المثلي عن طريق أحدهم، فيتلقن منه “العلوم” المثلية بتسليم مطلق. ولا ضير من مشاركة الخبرات، ولكن المشكلة تظهر عندما يحاول المثلي الأب (أو الأم كما هو التعبير الشائع) تحقيق ذاته في المثلي الابن، أو عندما يحاول خلق صورةٍ مطابقةٍ لنفسه فيه، في صورةٍ هي الأبشع من أشكال الزهو بالنفس. فينقل المثلي “الأم” للمثلي “الابنة” النتائج السلبية لتجاربه والتي توصل لها بتفسيرات شخصية قد توافق الواقع في مواضع، وتخالف الواقع بل وتناقضه في مواضع أخرى. فتصبح صورة الحياة المثلية لدى المثلي المستجد حياة جهنّميةً مليئةً بالمصاعب، فيدخل معتركها بنفسية الخاسر، أو يدخلها بنفسية المرتاب، والذي يتوخى الخسارة ويتحين الفرصة لرمي اللوم على أيٍّ كان، دون معالجةٍ حقيقيةٍ للمشكلة.
بدل أن ينظر الطرفان في أسباب انتهاء علاقتهما، وإن كانت في بواكير لقاءاتهما أم في سير العلاقة، يرمي كل منهما اللوم كله على الطرف الآخر، ويرميان معا اللوم على المثلية بحد ذاتها، فينسيان أن العلاقات الغيريّة تنتهي أيضًا، وأن المثلية ميل جنسي لا علاقة بينها وبين نمط حياة المثلي أو نفسيته أو شكله حتى.
سرمد العاصي
sarmadorontes@live.com
اترك تعليقًا