هي مرةٌ واحدةٌ تكفي لكي يصبح الاستثناء عادةً، والعادة نمطًا، والنمط إدمانًا.
حزمت أمتعتي الخفيفة وحجزت في أبكر رحلات دمشق وذهبت إليها. لم أخبر أهلي، ومع أنني شعرت ببعض الذنب الذي كان مخلوطًا ببعض الخوف، إلا أنني شعرت أنني محقة، وأن ما أفعله صحيح، أو انه على الأقل مبرر. عندما وصلت كانت تقف في المحطة بانتظاري. رأيتها، تمعنت فيها، نظرت إليها كأنها لي. لقد كانت فعلاً لي! لي وحدي! حضنتها وقبلتها من شفتيها. كان الطعم حقيقيًّا.
أصبح الاستثناء عادة. أصبحت أزورها في دمشق بتواترٍ أكبر. أصبحت جلساتنا أكثر اعتياديةً، ولمساتنا أكثر عفوية. نجلس في مطعمٍ، أو على مقعدٍ في حديقةٍ، أو في إحدى الكافيتيريات. ننظر إلى عينيّ بعضينا ونتأمل. مرةً كان الجو ماطرًا، وكانت السماء كريمة جدًا بأن أعقبت المطر بقوس قزح، عندها جاءني الإلهام فنطقت بما ألحت عليّ خوالجي به. نطقت “أحبك”.
أصبحت العادة نمطًا. زياراتي لها صارت دورية. كل فترة محددة أحزم أمتعتي وأركب الحافلة المتجهة إلى دمشق. أقضي النهار هناك ثم أعود في الليل. يظن أهلي أنني كنت عند صديقتي في الحارة المجاورة، فلا أنفي أنا ولا أؤكد.
أصبح النمط إدمانًا. صرت بحاجة إلى الذهاب إليها. ثقتها بنفسها كانت تأسرني، وبصوتها الهادئ كان يمكن لها أن تقنعني بأن اللبن أسود، أو بأن الحنظل حلو المذاق. صرت أبيع مجوهراتي كي أستطيع دفع تكاليف سفري. كنت أتكلف متاعب السفر، والكذب على أهلي. تضليل نفسي في أحيان، وأن أعلها بأن القادم أفضل في أحيان أخرى. كنت سعيدةً جدًا وحزينةً جدًا. كنت أعيش تجربةً حقيقيةً، مفعمةً بمشاعر حقيقية، مليئةً بأحداث حقيقية وأشخاصٍ حقيقيين. ولكن ضعف التجربة كان يؤلمني، فقد كانت المسافات تشكل عائقًا كبيرًا، وكانت تبرر حدوث ما لا يبرره القرب.
كان لدى نجود صديقاتٌ كثيرات، وكانت تعرّفني عليهن. كنت في كل زيارة أتعرف على شخصٍ جديد، فأشعر بصغر تجربتي أمام تجربة نجود، وقلة حيلتي أمام سطوتها. كانت تُعْلمني بشكلٍ غير مباشر بنشاطاتها في دمشق؛ حفلاتٌ كانت ترتادها، ومجالسٌ كانت تتردد عليها، وسهراتٌ كانت تقضيها مع أصدقاء وصديقات كنت أعرفهم بالاسم فقط. كثيراتٌ من هؤلاء كن ارتباطاتٍ سابقةً لها، أو علاقاتٍ عابرةً حافظت عليها رغم “عبورها”. إحداهن كانت امرأة مطلقة في الثلاثينيات من عمرها، وأخرى كانت تعيش وحدها في بيتٍ مع صديقها المثلي أيضًا. كان من بينهن الطبيبة والتي لم تكمل دراستها، تلك التي تصرف على نفسها وعلى صاحبتها، وأخرى ما زالت تقبض خرجيتها من أمها في آخر كل شهر. كن متنوعات، ولكن الذي كان يجمعهن هو جرأتهن، والتجارب العديدة التي كانت في أقلها لا تخلو من عواطف وقصص دراماتيكية ربما لم تنته.
تعرفت نجود في إحدى الحفلات على فتاةٍ اسمها فجر. كانت فجر صديقة مرام التي كانت بدورها صديقة غادة. شبكة واسعة من الأصدقاء يصعب تعقب كل أصولها، ولكن الفروع فيها أوضح من ألا تُرى. اسم فجر أصبح يتردد كثيرًا، بينما اتصالات نجود بي باتت تتقلص بالحجم وتقل في العدد. لم أشأ أن أربط الحديث ببعضهما، ربما لأن ظروف مدينتي كانت أسوأ من أفكر كثيرًا، وربما لأنني لم أرد أن أفكر أصلاً..
سرمد العاصي
Sarmadorontes@live.com
و مع ذلك لازلنا ندعي السعادة في هذه العلاقات