تناول موضوع الحب يحتاج لكثيرٍ من العناية والدقة. فهو موضوعٌ يمس الجميع، إما لأنهم أحبوا في الماضي، أو لأنهم في علاقة حب، أو وببساطة، لأنهم يحلمون به. كل الأغاني، لأم كلثوم ولهيفا، تتحدث عن حلاوة الحب، ولوعة الحب، وقسوة الحب، وشهوة الحب. كل القصص في الروايات والأفلام فيها بطلان يحبان بعضهما حتى الثمالة. كل الناس تريده، تبحث عنه، وتحتاجه، وإن وجدته تحاول نحته على ما تحبه، أو تركه لما لا تحبه فيه، فلا يعود حبًا ولا تعود تحب!
أُصلّي فما أدري إذا ما ذكرتُها أثنتّينِ صلّيتُ الضُّحى أم ثمانيا
أراني إذا صليت يمّمْت نحوها بوجهي وإن كان المُصلى ورائيا
وما بي إشراكٌ ولكن حُبّها كعودِ الشّجا أعيا الطّبيب المُداويا
أبياتٌ لمجنون ليلى الذي يكاد يرى في محبوبته معبودًا، فقد عقله في سبيل حبها، فأصبح اسمه المجنون، تسامت مشاعره حتى غطّت على عقله، وكثيرة هي أمثلة هذا الحب في تاريخنا، ولكن العرب، كغيرهم، كانوا أيضًا يحبون مثليًّا. فأبو النواس من أشهر من قال الشعر في الغلمان وفي نفوره من النساء:
أتجعلُ من تطمثُ كلَّ شهرٍ وتُـنـتـج طـفـلـة ً فـي كـلِّ عـام
كأمردَ واضحِ الخدين حُلوٍ يَزِينُك في النُّعوت وفـي المقام؟
ولكن رأي أبي النواس لم يكن رأي الجميع، فقد قالت أخرى في مدح المثلية بين النساء، فيما يدعى بالسحاق فقالت:
شربت النبيذ لحب الغزل وملت للسُّحْق خوف الحبل
فضاجعت في خلوةٍ حِبّتي وفقت الرجال بطيب العمل
لعل كلاهما وجد في الممارسة الجنسية الغيرية ما يحمل عبء الأسرة والأولاد، فهرب منها إلى المثلية، ولو ان المثلية ليست خيارًا ولكن أن تعتبر أنك هربت نحوها بدل أن تجيء بها إليك هو الخيار. ويتمثل هذا في اعتبار الحب “كبسة زر”. تقرر أن تحب فتحب، وتقرر أن تهجر فتهجر، فلا أنت تعطي وزنًا للمشاعر، ولا قيمة للمبدأ، ولا اعتبارًا للآخر.
لن أتحدث هنا عن الحب، بل سأتحدث عما هو ليس بحب، عما نسميه حبًا خجلاً أننا لم نحب، أو ما نعتبره حبًا توقًا منا للحب. فالكثير من المثليين يتلفظ بهذه اللفظة دون اعتبارٍ لوقعها، فبدل أن يبدي إعجابه بأمر يقول “أحب”، وبدل أن يطري على الآخر يقول له “أحبك”، وبدل أن يسمي الأخر شريك جنس، إن كان كذلك فقط، يدعوه “حبيبي”.
إن أسوأ ما قد يصيب اللغة هو أن تفرغ الكلمات من معانيها، فتتبدل الكلمات، وتصبح الروح عضوًا، والأبد برهةً، والاشتياق شهوةً، وتصبح كلماتنا غير ذي كلمات. نخاطب من أمامنا فنقول “سأحب روحك للأبد” وكلانا يعلم أنني أقول “أشتهي أن أضاجع جسدك لبعض الوقت”، وكلانا يقبل بهذا الطرح، ويرضى أن هذه الكلمة قد استهلكت، فنصبح كالراعي الكذاب، إذا ما قالها بصدق مرةً لم يصدقه أحد. إلا أننا أصبحنا كلنا كالراعي الكذاب دون أن نكذب أصلاً، فالإرث الذي يحمله كل مثلي في ذهنه عن هكذا كلمات هو أنها خداع، ونقاوم في كثير من الأحيان أن نصدق أن من يدعي حبنا يحبنا فعلا.
وفي المقابل، فكلنا في توق لعيش “التجربة” ولو ان بعضنا يصلي فيقول “لا تدخلنا في التجربة” ولكن التجربة هي فعلاً ما نريد دخوله. ترانا نبحث عن الحب في كل الحوادث، فأظن ذاك الذي يحدق بي يحبني، وأبني معه صروح خيال، أو ان تلك التي تحدثني تريد الزواج بي، فأكون لها المحبة والشريكة. نكاد لا نعيش اللحظة في بحثنا عن تلك اللحظة، فيهرب منا الواقع، ونخسر حق التجهز للمستقبل، فإن أتتنا لحظة الحقيقة خيبت ظننا وخيبنا ظنها.
ليس أجمل من أن تكون حبيب أحدهم، وليس أحلى من أن تعيشي محاطة بحبها، ولكن اختلاق الظنون وطرح كل الأوراق يكاد يكون مراهقة إن لم أقل طفولة، وليس من طباع راجح العقل أن يتخيل في كل موقفٍ لحظةً مسروقةً من فيلمٍ رومانسي، أو جملةً قرأها في رواية حب. نحن نكاد في تعجلنا في إيجاد الحب أن نفقد حتى فرصة البحث عنه، فأن تتحرى الأمر في كل شؤونك ليس بحثًا بل وهمًا، والبحث يكون في عيش الواقع بحد ذاته، فلا خوف من ألا يكون ما نعيشه الآن حبًا، فالحب يأتي ولو بعد حين.
ننظر للحب فلا نراه، فنتمسك بحب الحب لا بالحب ذاته، وننسى أن الحب ليس قبلًة سرقت في ازدحام، ولا نظرةً يلقيها الواحد على الآخر فيسهر الأول الليالي ويبحث الثاني عنه في الأزقة. تلك بدايات حب، تلك لحظات إعجاب، قد يكون الواقع كريمًا فيمنحنا إياها، وقد يكون الواقع واقعيًّا فنحيا ما يشابهها أو يقل عنها. ولكن الحب أعمق من لحظات، الحب يكون على طول الأيام وعرضها. الحب في الصحبة كلما طال الزمان، وفي الألفة نبنيها بعد عِشرة، وفي التاريخ يكون بين حبيبين يحيون كل اللحظات معًا حلوها ومرها. الحب يكون في المشاعر التي تكبر مع العمر، لا في الرغبات التي تغير حجمها كما رسم الهلال.
وكما ليس لنا أنا نسمي الإعجاب حبًا، فليس لنا أن نسمي الحب كذبًا. إن أحببت أحدهم فقد أحببته، حتى لو جرحك أو خانك أو كان قاسيًا عليك. وكيفما انتهت قصة الحب، فالمشاعر التي كانت غامرةً بالطبع هي حقيقية، وليس في إنكار الماضي أو التهرب مما حصل ونعته بصفات لا تليق بالحب كأن نقول “كنت غبيًا” و “لم أكن أدري”، ليس في ذلك إلا تشويهٌ لحقائق وتنصلٌ من مشاعر جعلتنا سعداء.
الحب يأتي حين لا تبحث عنه، وفي هذه المفارقة تكمن حكمة الحفاظ على هذه الكلمة، وصونها من الابتذال. “أحبك” ليست أي شيء آخر سوى “أحبك”. لا تخلق نشوة الحب في ثوانٍ، ولا بعد يوم ولا بعد شهر ولا بعد سنة، إنها ما يحصل حين يختزل الزمن في لحظة، ويدخل المكان في المكان، وتدور الدنيا حول المحبوب فقط، فلا يوجد في الكون غير نفسك ونفسه، يصبحان نفسًا واحدًا يذوب قلباكما لحرارته، وتلهب لفظته “أحبك” نار حياتكما للأبد.
سرمد العاصي
Sarmadorontes@live.com
اترك تعليقًا