حلب

كسائر المدن السورية الأخرى، تعتبر حلب أيضاً من أقدم المدن المأهولة في التاريخ، ويرجح علماء الآثار أنها بنيت قبل الألف الخامس قبل الميلاد، وكانت تسمى يالآرامية حلبا، نسبة إلى حجارتها البيضاء، وهذا ما يرجحه معظم المؤرخون والمثقفون الحلبيون، ومنه استقي لقبها «الشهباء».

حلب هي ثاني أكبر المدن السورية مساحة، لكنها الأكبر في عدد السكان الذين تجاوزوا المليونين ونصف بحسب إحصائية عام 2010، ويعتبر أهل حلب من المحافظين غالباً، على اختلاف مللهم وأديانهم، مما يجعل حياة المثليين فيها أصعب وأكثر خطورة.

في المدينة حمام واحد يرتاده المثليون، الذين استغلوا المساحات الخضراء الكثيرة في المدينة وحدائقها المتعددة للتجوال، لكنهم لم ينجحوا كأقرانهم الدمشقيين في اختيار مقاهٍ خاصة بهم، كما لم يتميز المجتمع المثليّ في حلب بمعالم واضحة، على عكس المجتمع المثليّ الدمشقيّ.

ما كان يوماَ

AleppoCitadel

«ما كانَ يوماً كباقي الأيام التي سارت على طريقِ ذاكرتي، أو ربما اعتقدته كذلك وقتها، ككلِّ من في عالمنا كان لابدّ أن تصادفَ حياتي مفترقاً ألتقي فيه مثليّاً للمرة الأولى»

تنتهي المكالمة على رنينِ موعدِ اللقاء العاشرة صباحاً في الحديقة خلف المكتبة. لم أشعرْ يومها بذاك الحماس الذي ما فتئتُ أتوقعه، أني جالسٌ مع أحدهم، وعلى كرسيٍّ في حديقة.

أيُّ الألوانِ أفضل؟ أسيكون مظهري لائقاً؟ أما من شيءٍ أغيّره في ذاتي؟ ولكن بغيةَ ماذا؟ وأنا الذي لم أكترث يوماً لألوانِ ثيابي وخطّةِ المشط على شعري، ولربما تفاجأت المرآة من تلك الأسئلة التي طرحتها ولم أجد لها جواباً.

بدا صعباً إدراكُ حجم اللاوعيِ الذي انتابني في تلك اللحظات. كل ما أدريه أن ازدحام الأفكار عرقل اتزان كياني وقلب جسور المنطقِ ممراتٍ ضيقة لا تتسع لأكثر من هواجس تصطبغ بافتراضات… عمّا يمكن أن يحصل حينما أقابلُ مثلياً يشابهني في ميولي. كيف يكون اللقاء الأول؟ أينبغي أن أخاف؟

لكن لا، مهلاً، أذكر أنني حادثته عشراتِ المرات من حاسوبي، وكلمتهُ مراراً على الهاتف، تباً لتلك الظنونِ التي تجتاح عقلي وتغيّبني عن معالم الطريق رغم أنها لم تقطعْ سيري. تذكرتُ قبل وصولي مبعثراتِ زميلي عن المثليين، حين قال لي مرّة: أيعقلُ أنهم موجودون في عالمنا؟ أيمكن لنا مقابلتهم؟ أعتقدهُ ينظر ألينا على أننا ضربٌ من الأشباحِ لا أكثرْ، أو كلمةٌ تُقرأُ في معجمٍ ليس إلا.

ارتديتُ نظّارةً سوداء، ولا أدري لما فعلتُ هذا، أنا الذي لم استظرف الغموض يوماً ما، يبدو أن أفكاري تقودني كلّ منها حسب ما تشتهي فأفعل أشياء لا تمتُّ لهويتي بِصلة.

– كيفك حالك؟
— بخير.
— اعذرني، لقد تأخرت.
— أتريد الجلوس أم نكمل الحديث سيراً؟
— كما تشاء.

هي مجرّد لحظاتٍ ويزول الارتباك الفظيع، وليت زميلي كان هنا ليشاهد أننا حقيقة ولسنا وهماً كما يظن، أو كما أرغموه أن يظن. دارتِ الأحاديث بيننا، كما دارت الساعاتْ، ومن الغريب أنْ لا أحدَ منا تجرّأ على محادثة الآخر بشيءٍ مما يخصّ المثليين، إلا أنني فعتلها في نهاية الأمر، في حضرة الارتباك المباغتْ، سألتهُ ذاك السؤال الساذج: أتعتقد أنَّ أحداً ممن هم جالسون هناك مثلنا؟ فيجيبني بروحٍ من الدهشة: ما الذي جعلك تفكر هكذا؟ لا، لا أظن.

أربعُ ساعاتٍ لم أتوقع يوماً أن أمضيها مع شابٍّ يساير ميولي وأفكاري، أربعُ ساعاتٍ مع شابٍّ مثليّ لم يكتبْ لها القدر أن تعودَ مجدداً، ليبقى الكرسيّ مشغولاً بأوراقِ الخريف، فقد صارت بيننا جسورٌ أطول من تلك التي جسّدتْ أفكاري يوم اللقاء الأول، صار بيننا دويُّ حربٍ لم تتوقفْ، ويبدو أنني كنت أمازح نفسي كي تغفو بحديثي عن حلمٍ بالسعادةِ لن يطالَ شاباً من مدينتي.

حلب، تلك المدينةُ التي أغرقتها أجنحة الضباب، وتصاعدت من مداخنها خيالاتُ الموتْ، مدينتي التي كُتِبَتْ على اسم الغياب، ولم يسمعْ لألمها أيّ صوتْ.

موالح | مشاركة من الصديق فادي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: