حماة، كمعظم المدن السورية، هي من أقدم المدن في العالم، حيث يرجح علماء الآثار أن تاريخ بنائها الأول يعود إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد، ويعود اسمها الحالي إلى كلمة «حمث» التي تعني الحصن في الكنعانية والآرامية.
كانت حماة من أوائل المدن التي أعلنت الثورة على الاستعمار الفرنسي، ليتم قصفها في نيسان 1945 بالطائرات الفرنسية، كما قاوم رجالها الكيان الصهيوني في حرب 1948.
حماة هي رابع المدن السورية من حيث عدد السكان الذين بلغوا 854,000 نسمة وفقاً لإحصاء عام 2010، ولذلك لا تجد فيها مكاناً للتجوال المثليّ سوى حديقة أم الحسن التي تقع على نهر العاصي.
مدينة واسعة الضيق
مدينتي حماة هي مدينتي المفضلة في سوريا وربما في العالم. أحب جمال حيطانها وأنين نواعيرها. شوارعها لا هي ضيقة تخنقك ولا هي واسعة تشعرك بالصغر. وسماؤها صافية رغم أنها تحمل كمد أهلها بين طياتها. تتجنب حماة أن تعطيك أي شعورٍ سلبي، وتحاول جهدها أن تحبها، فهي اليتيمة التي تخلى عنها الجميع، حتى أهلها الذين حضنتهم لسنين يتحدثون عنها بنفور ويهربون ليبنوا أحلامهم بعيداً عنها. كثيرون منا لم يزورا حماة قط، بل ويتجنبون زيارتها خوفاً من أن ينالهم شيءٌ من حزنها. لا تحاول حماة أن تستجر العواطف ولا أن تثير شفقة من حوالها. تستقبل من يدخلها كالعروس تستقبل عريسها، وتودع من يغادرها كالأم تودع ابنها، فلا هي تحاول إثقالنا بوحدتها ولا هي تحملنا وصايا خوفاً من أن نملّها.
لقد التقيت، قبل ارتباطي بنوار، بالعديدين من مختلف المحافظات، من دمشق وحلب وحمص واللاذقية، بل حتى أنني كدت مرةً أن أذهب إلى السويداء للقاء أحدهم. ولكن أغرب لقاءاتي كان ذاك الذي كان في حماة. فقد التقيت ذاك الشاب عند مركز البريد في ساحة العاصي. تحادثنا وحصل ما يحصل في معظم اللقاءات، أن بدأ يتكشف لي أن نصف كلامه السابق كذب، والنصف الآخر يكاد يكون كذلك. لقد كنت قد مللت من هؤلاء، فكثرتهم تكاد أن تجعل منهم النمط، وتجعل من الصادق الاستثناء. جلسنا في حديقة أم الحسن، ولم أكن أعرف أنها حديقة يتجمع فيها المثليون ليلتقط أحدُهم ليذهبا لمكان ما ويعودا منه وكل منهما مثقل بمني الآخر.
هناك شعرت بالغربة رغم أن من يحيطونني مثليون مثلي، ولكن نظراتهم كانت تتفحصني كأنني “سعيدة الحظ” تتفحصها الأم الخطّابة، وثم فجأة رفع أحدهم يده وسلم على مرافقي. ثم مر الآخر وسلم أيضاً، ثم ناداه ثالث وراحا يتحادثان! لقد كان يعرفهم!
لا أدري ما كان شعوري وقتها، ولكنني بدأت أكيل السباب لحماة! فحماة هي المدينة الصغيرة التي يعرف كل أهلها بعضهم، وحماة هي التي لم تخبئني في ازدحامها، وحماة هي التي لم تملك سوى هذه الحديقة لكي نتنزه فيها!
وددت لو أهرب، أخرج من الحديقة راكضاً فأدخل بيتي وأختبئ في غرفتي تحت غطاء سريري، ولكنني لم أستطع. شعرت بالضيق أنني رميت باللوم على حماة، ولكن حماة تعرفني كما تعرف كل أبنائها، نغضب بسرعة ونهدأ بسرعة. ثم ألهمتني حماة بالفكرة. وقفت على قدمي وأرسلت رسالة لمرافقي أنني رأيت أبي يمر من بعيد، نحن قريبون من ساحة العاصي واحتمال أن أرى أي أحدٍ كبير جداً. أدرت ظهري وبدأت بالمشي السريع. سمعت أنين النواعير حولي تشاركني حزني، ورأيت العاصي بقربي يجري منذ الأزل، باقياً حتى الأبد. شكرت المدينة أنها كانت جميلة بالقدر الذي يذهب عني كمدي فترفعه إلى السماء وتودعه بين الغيوم، ثم نظرت إلى العاصي وشكرته، شكرت العاصي السرمد.
سرمد العاصي
sarmadorontes@live.com
اترك تعليقًا