لسوريا مرتبة عليا في خصوبة النساء فيها، حيث أن معدل الزيادة السكانية عندنا يصل حتى 2,2 بالمئة وهو ما يكاد يتجاوز النمو الاقتصادي لدينا. لكن بالطبع، ومع تدهور الأوضاع السورية، فإن الكارثة الإنسانية قلبت المشكلة. ولكن وفي خضم كل هذا تضيع هموم الفرد، ويصبح الهم العام هو الهم الوحيد المتاح، وتضيع حقوق من كان لديهم قلة منها بعد أن تصبح قيمة الإنسان أقل من قيمة الرصاصة التي تبعثر دماغه، أو معدن الصاروخ الذي يبعثر جسده.
تعاني الشابة السورية من قلق قد خلقه لها محيطها يدعى “الزواج”، وأنها تحقق ذاتها في الحصول على الزوج المناسب، وتفقد قيمتها إن لم تتمكن من ذلك. ولكن المشكلة الحقيقة هي عندما يصبح هذا القلق هاجساً لا عند الفتاة نفسها وإنما عند ذويها، فيصبح همهم تزويج البنت “والسترة” عليها كأنها كانت عورة مكشوفة تحتاج للتغطية. وتتفاقم المشكلة لتصبح كارثة عندما يرسل الأهل ابنتهم للزواج بأي كان، حتى لو يكن هناك أي توافق بين الطرفين، فإن كان يكبرها بثلاثين سنة فلا بأس طالما أن “الرجال ولو فحمة لحمة”، ولو كان الرجل جلفاً لا يحسن ممارسة الحب فلا مشكلة لأن المثل يقول “ظل راجل ولا ظل حيطة”، ولو أنه يهمل زوجته ويتركها للجارات فالمثل يدعمه ويقول “ضروب النسا بالنسا والحمير بالعصا”. المرأة عندنا تقرن بالحمار، وترك النساء لإدارة شؤون النساء كضرب الحمار بالعصا، فعال وضروري. ولكن ومع كل هذا القهر، ماذا لو كانت الفتاة مثلية؟
يغيب عن ذهن الشاب، مثلياً كان أو غيرياً أن جسد الذكر بالنسبة للفتاة المثلية مليء بالثقل غير المحتمل. هو غير جذابٍ بالطبع، إلا أنه قد يكون مقرفاً ومنفراً ومثيراً لاشمئزازها أيضاً. كثرة الشعر على صدره، أو رائحة قدميه الكبيرتان، يداه الخشنتان واللتان يمكن أن تجذبا غيريةً أو مثلياً قد تسببان ذعراً للمثلية.
نتجاهل كل هذا عندما نسمع أن فتاةً ما قد زُوِّجت لأحدٍ ما لم تكن تحبه. لكثرة ما طُرِح الموضوع نكاد نمل عند سماعه، ولكنه يتجاوز الكارثة ليصبح تحطيماً للأنوثة عندما تكون الفتاة مثليةً.
وفي المقابل فإن الشبان أيضاً يقعون تحت ضغط، ولو أنه أقل منه على الشابات، لكي يتزوجوا. تنظر أمي إلّي وتغمز أنها تعرف أنني سآتي يوماً ما مع “الفتاة” التي أريد الزواج بها مقدماً إيها لوالدي ليعطياني بركتهما ويثنيا على اختياري. أتمنى للحظة أنني لم أكن مثلياً، وأضرب بعرض الحائط كل ما قرأته، بل وكتبته، عن الفخر بالمثلية. كنت أريد لأمي أن تكون فخورة بي، وأن تُحضِّر لعرسي كما تُحضِّر لعرس أختي. يراودني خوفٌ بعدها. لو لم أكن مثلياً لما التقيت بحبيبي، ولما رأيت هذا العالم المختلف، ولبقيت على الطرف الآخر أظن أن الدنيا تسير كما أراها فقط.
إن دخولي للعالم المثلي لم يكن مجرد تجربة جنسية، كما أنه يتجاوز تجاربي العاطفية ولو أنها كانت أكثر من رائعة. إن المثلية كعالم نبهتني أن ما يحدث داخل البيوت، وخلف الجدران، وفي الصدور أبعد ما يمكن عما أراه بعينيي أو أتصوره بعقلي. لقد جعلتني المثلية أنتبه إلى أن لكل قصة وجهان على الأقل، وأن ما لا نعرفه يفوق بأضعاف مضاعفة ذاك الذي نعرفه.
كنت دائماً أغفل عن حقيقة أن أمنيتي بألا أكون مثلياً هي أمرٌ غير واقعي. ليس فقط لأنني قد خُلقت كذلك، ولكن لأن مثليتي، ولو انها جزء من طبيعتي وليس كل طبيعتي، تؤثر في بقية جوانب حياتي. صحيح أن الفرق بين المثلي والغيري هو ممارسات السرير ونوع الأفلام الإباحية التي يشاهدها المرء، إلا أن المثلي يتميز عن الغيري بأمرٍ غاية في الأهمية. إن المثليين على اتصال مع الجانب الآخر منهم والذي يصعب على الغيريين الاتصال به، أو حتى تقبل وجوده.
جميعنا نملك جانباً ذكرياً وآخر أنثوي، ويحاول الوالدان، ومن بعدهما المجتمع، تنمية ذاك الذكوري عند الرجال، وذاك الأنثوي عند النساء، متجاهلين الطبيعية الفيزيولوجية للجسم، فمع أن التستسترون هو هرمون الذكورة الذي يفرز من الخصى ويحمل اسمها (تستيكال) فإن الإناث يملكن بعضاً منه أيضاً، وهرمونا البروجيستريرون والإستروجين اللذان يساعدنا على تكوين الحمل وتثبيته يوجدان عند الذكور حيث يوجد الأخير بأهم أشكاله وهو الإستراديول.
وينعكس هذا على نفسية وطبيعة الإنسان، فمع أن المثلي لا يوجد لديه خللٌ في هرموناته، إلا أنه يسمح لجانبه الآخر بالظهور، أو انه على الأقل لا يكبح ظهوره. ولذاك فأن يتمنى المرء ألا يكون مثلياً يعني أنه يتمنى أن يكون شخصاً آخر، فقد يفقد مع مثليته إحساسه العالي بالآخر، أو سعة صدره، قدرته على التحمل، أو بعضاً من جماله الخارجي أو الداخلي. مثليتنا ليست سناًّ نقتلعه أو حبة شباب نتمنى اختفاءها. المثلية تدخل ضمن تكوين المرء، وتشارك في تشكيل شخصيته وإخراج نفسيته بالشكل الذي تخرج به.
كانت أمنياتي بألا أكون مثلياً فقط حتى أستطيع أن أتزوج بفتاةٍ ترضي أمي هي أمنيات طفولية، وكان عليّ أن أدرك وقتها، كما أدرك الآن، أن لن أكون سعيداً مالم أُسعد بحقيقتي وفطرتي، دون أن أتغاضى عن عيوبي المكتسبة، ولن أستطيع العيش بهناءٍ إن كنت أبحث عن رضى الآخرين بتغير ما خُلقت عليه.
لن نستطيع تجاوز الكارثة الإنسانية التي تتعرض لها سوريا اليوم بأن نحاول خلق أشخاص جدد داخلنا، إذ أن هذا، كأحد أهم الأسباب، هو ما تسبب بتفاقم الكارثة، وإنما بأن نتقبل أنفسنا ونتقبل طبيعة غيرنا وألا نخشى على التزايد السكاني السوري، فخصوبة النساء السوريات عالية وكفيلة بأن تعوض عن أولئك المثليات اللواتي لن ينجبن، أو أولئك المثليين الذين لن ينخرطوا في زيجة غيريةٍ تُنتج أطفالاً من صلبهم.
سرمد العاصي
sarmadorontes@live.com
اترك تعليقًا