هوموفوبيكا

غالباً ما يدفعنا الشعور بالوحدة للقيام بأشياء لم نكن نتوقع أن نقوم بها أبداً. أحياناً نبكي في سرنا. أحيانا نرسم ابتسامة مزيفة لإخفائها. أحياناً ندعو ونصلي. نحاول النسيان. نمضي في حياتنا وكأن شيئاً لم يحصل. لا أتحدث عن الوحدة بشكل عام، بل الوحدة التي يشعر فيها المثلي الذي لم يتأقلم مع ذاته ولم يتصالح مع نفسه بعد، الذي يشعر أنه وحيد في هذا الكون.

قد تريد أن تشارك هذه المشاعر مع أحد، لكنك تعرف أنه من الصعب تقبلها في هذا المجتمع.

كنت في المغترب القريب، في محافظة أخرى بعيداً عن عائلتي، أعيش مع أحد أصدقائي في الجامعة في منزل صغير على أطراف المدينة، نذهب للجامعة سويا ونمضي معظم الوقت مع بعضنا.born-child-homophobia-homophobic-quote-Favim.com-143354

لم أكن أعرف ذاك الشاب من قبل، فقد قابلته صدفة في إحدى المحاضرات واتضح أنه من محافظة أخرى أيضاً ويعيش وحيداً في منزل كبير، فعرض عليّ المكوث عنده بغرض الدراسة سوية وقضاء الوقت وتخفيف الشعور بالوحدة. وجدت العرض مناسباً وقبلته.

كانت تجاربي المثلية شبه معدومة في تلك المرحلة من حياتي، ولم أكن أفكر بذلك الشاب بطريقة شهوانية، فقد كان لطيفاً جداً وأحببت صداقته، وأصبحت صداقتنا قوية مع الزمن، فكان كل واحد منا يبوح بأسراره للآخر، إلا أنني لم أستطع البوح بسرٍ واحدٍ في ذلك الوقت، لأني لم أكن أعرف عواقبه. حاولت كثيراً أن أعرف رأيه عن الموضوع. لم يبدِ كثيراً من الغضب أو الكره، لكنه كان يعتقد أن تلك “الكائنات” –على حد قوله- هي مجرد خيال أو محط سخرية لا أكثر.

وحدة قاتلة تحيط بي. حزن وخوف يثقلان كاهلي. لم أكن متقبلاً لذاتي جيداً. لكني جربت كافة الطرق للتخلص من مثليتي التي كُنتُ أراها تتغذى على سعادتي يوماً بعد يوم. فكنت شبه مُقتنع ببقائي على هذه الحال لبقية حياتي. لكن ما من أحد أشاركه سري الدفين. ما من أحد يعرف ما في داخلي من كآبة.

مضت الأيام، وعدنا إلى ديارنا بعدما انتقلنا سوية انا وصديقي إلى جامعة دمشق. هناك بدأ مشواري المثلي. لم يمض وقت طويل حتى تعرفت على أحد الأشخاص الذي مكنني من محبة ذاتي والقبول بها، وأصبح ذلك الشخص ارتباطي لاحقاً. لكني أشعر بالحاجة لصديق أشاركه كل هذه الأسرار، حينها قررت أن أخبر صديقي.

انقضى احتفال رأس السنة الميلادية منذ عدة ساعات، وأنا كنتُ مستلقياً في سريري أتخبط في أفكاري. ها هو على قائمة أصدقاء المسنجر يتكلم معي.
“خبرو؟ ولا خلص أنسى كل شي؟ ما بتصور يفهمني غلط، والله عِشنا مع بعض ببيت واحد فترة منيحة، وأكيد بيكون بيعرفني منيح أنو هوِ شخص جيد وما رح يحكم عليي من هالقصة. لا، لا، أكيد ما رح يفهم. بس كتير صحبة نحنا، ولازم خبرو بالموضوع بركي بتصير صداقتنا أقوى”.

تدافعت في رأسي ملايين الأفكار، وشعرت كأنني غبت عن الوعي لبرهة قبل أن أجد على شاشتي الكلمة السحرية “أنا غاي”، قلتها بلا وعي. سكوت قاتل اخترق أحشائي، شعرت بأن قلبي توقف لبرهة من الزمن. ضحك معتقداً أنني أمزح. أخبرته بأني لم أكن أمزح وأن الموضوع جد جاد، فردّ بلهجة غضب عارمة موجها كافة الإهانات المسيئة في حقي وحق المثليين، متناسياً كل شيء كان بيننا، رامياً صداقتنا في مكب النفايات. لم يتوقف عن الكلام، وأصبحت في نظره مريضاً نفسياً، مختلاً، مثيراً للاشمئزاز والقرف، أستحق الاحتراق في نار جهنم حتى نهاية الزمن.

لم أمتلك وصفاً لإحساسي في تلك اللحظة، هل كان غضباً من كلامه الجارح، أم حزناً من خيبة أملي، أم تراه كان تعجباً من ردة فعله القاسية؟ كنت أعلم أنه تربى في بيئة منفتحة وعلى قيم أقل تزمتاً من غيره. لم أتخيل أبدا أن تكون ردة فعله بهذا الشكل. طلب مني عدم محادثته أبداً بعدها. حاولت بكافة الطرق تخفيف ذلك العقاب الشديد دون جدوى.

رأيته بعدها في الجامعة. مددت يدي للسلام، لكنه وقف ناظراً إليّ نظرة غريبة جداً. لم أرَ هذا الحقد داخله من قبل. مد يده بكل حذر لتلمس أصابعه كفي قبل أن يسحبها بعيداً. أدركتُ حينها مدى الخطأ الذي ارتكبته حين أخبرته بما في داخلي، فقد خسرت الصديق الذي كان من المفترض أن يقف إلى جانبي ويدعم قراراتي. لم أكن أعرف أنه يمكن لأحد أن يكن هذا الحقد للمثليين حتى وإن كان هذا المثلي صديقه المقرب.

بدأت أقنع نفسي بالمضي قدماً، متناسياً ذلك الإنسان، حاذفاً كيانه من ذاكرتي. لا أنكر أن الألم من تلك الحادثة يعتصرني، لكن الحياة تستمر وأنا الآن قادر على المضي بدونه. رغم أنني شعرت بعد فترة قصيرة بتغير طفيف في تصرفاته، حيث أنه بادرني بالسلام والسؤال عن أحوالي ودراستي دون التطرق إلى موضوع المثلية الجنسية، لكنني اعتبرت ذلك نهاية لعلاقتنا وتحديداً لسقفها.

أعلم الآن أن الكثيرين في هذا العالم لديهم “هوموفوبيا”،  لكنني أعلم أيضا أن هناك من يقبلنا، وبل من يقف إلى جانبنا في قضايانا ويدافع من أجلها، وقد قابلت الكثير منهم في حياتي وأتمنى أن تنتشر رسالة المثليين في العالم حتى لا نبقى داخل مجتمعنا السريّ وأن يعلم الكون أننا بشر لدينا ميولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وأننا موجودون في كل مكان وعلى مر جميع العصور.

نوار جيرون

Jairoun.nawar@gmail.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: